عرف الانتقال الرقمي في الإدارة العمومية بالمغرب تطوراً ملموساً، من خلال إتاحة العديد من التطبيقات والبوابات الإلكترونية لتيسير الحصول على الوثائق المطلوبة لإنجاز المساطر الإدارية، وللاستفادة من الخدمات العمومية الأساسية في المجالات الاجتماعية؛ كالتعليم والتكوين المهني والصحة والرعاية والتصدي للإقصاء الاجتماعي، والاقتصادية كإنعاش الشغل والاستثمار وتحصيل الضرائب وحوكمة التدبير المالي. وأسفرت مختلف الاستراتيجيات المتخذة عن تسريع التحول التنظيمي للمرافق العمومية وتزايد وتيرة رقمنة المساطر الإدارية ونزع الصفة المادية عنها.
و مع تباين سرعات الرقمنة يكرس التفاوت بين المواطنين في الولوج إلى المرافق العمومية، ويأخذ هذا التفاوت عدة أشكال، كالتفاوت المجالي في ظل استمرار “البقع البيضاء” (White areas) التي ينعدم أو يقل فيها صبيب الإنترنت، مع استئثار الإدارات المركزية بجلّ المعدات والحلول المعلوماتية مقابل ضعف رقمنة الإدارات المحلية بسبب محدودية الموارد وضعف المواكبة . على الصعيد السوسيوثقافي، تحتمل الخدمات المرقمنة بعض المخاطر على المساواة بين المواطنين في الاستفادة من المرافق العمومية، إذ بالرغم من التطور الذي يعرفه سوق تكنولوجيا المعلومات – نتاج الجهود الحكومية والخاصة – فإن فئات اجتماعية عريضة تجد نفسها عاجزة عن تملُّك أو امتلاك الوسائل والتقنيات الضرورية للوصول إلى الخدمات الرقمية نتاج الدخل المحدود أو تدني الثقافة المعلوماتية.
من الناحية الاقتصادية، يوجد تفاوت واضح في مؤشر النضج الإلكتروني (e-Readiness) تبعاً لطبيعة الخدمات ونوعية المستفيدين منها، في ظل ضعف نضج الخدمات الموجهة لعموم المرتفقين، مقابل جاهزية المنصات المخصصة لاستخلاص الفواتير والرسوم والضرائب، مع وجود نوع من التمييز في طبيعة الخدمات الموجهة إلى كل من المرتفقين والمهنيين، فحوالي 60 % من الخدمات الإلكترونية المقدمة للمواطن ذات طابع إخباري يقتصر على إتاحة المعلومات، وفي المقابل، فالخدمات المرقمنة بشكل كامل الموضوعة رهن إشارة المقاولات تقارب 42 % مقارنة بـ32 % بالنسبة للمرتفقين.
في ضوء ما سبق، يتضح أن التكنولوجيا الرقمية تفتح آفاقاً واسعة لعقلنة العمل الإداري إذا ما تم الوعي بالمخاطر والتحديات التي تكتنفها، مع السعي الحثيث لتحويلها إلى فرص اعتماداً على مداخل متعددة:
-مدخل العدالة الرقمية: بالرغم من الجهود المبذولة، فإن الفجوة الرقمية ما فتئت تتسع في ظل التفاوتات على صعيد التزود بالمعدات المعلوماتية ذات الجودة والتغطية بشبكات الإنترنت السريع، الأمر الذي يستوجب تعزيز قدرة الفئات الهشة على الوصول إلى خدمات الحكومة الإلكترونية كالأفراد ذوي الإعاقات، والأكبر سناً، والنساء، والشباب، والفقراء، من خلال اتخاذ تدابير جديدة لِتجْسير الهوة الرقمية كتعميم الولوج إلى الإنترنت ذي الصبيب العالي والعالي جداً، مع ضمان خدمة جيدة فـي هذا المجال، كما أن جعل الذكاء الاصطناعي في خدمة التنمية الإدارية يتطلب وضع تطبيقات محمولة جذابة ومُيسَّرة ونظم رقمية مبتكرة أكثر تأثيراً على حياة المرتفقين، إضافة إلى تقوية البعد التفاعلي للمنصات العمومية بتوفير تقنيين ومستشارين متخصصين في المواكبة الإلكترونية (digital support) لزوار البوابات الوطنية مكلفين بمرافقة المتعاملين في مختلف المراحل المتعلقة بالحصول على الخدمة العمومية الرقمية.
– مدخل الحكامة الإلكترونية: تيسير ولوج المتعاملين إلى الخدمات الإدارية المتاحة على الإنترنت من خلال تبسيط مسار المرتفقين، باختصار المراحل الواجب المرور منها، وحصر الوثائق المطلوبة للحصول على الخدمة، والتقليص من الإدارات المتدخلة في إنجاز الخدمة، إضافة إلى تطوير منصة التشغيل البيني للمعطيات (d’interopérabilité plateforme) بما يمكن من الربط بين قواعد المعلومات لمختلف الإدارات العمومية ومن تبادل البيانات والوثائق. بالموازاة مع ذلك يتعين تحسين مؤشرات الشفافية والنضج والفعالية، وتوفير شروط الولوج المُؤمَّن إلى الخدمات الرقمية
– تسريع التحول التنظيمي للإدارة العمومية، عبر مراجعة أطرها الهيكلية والوظيفية، وكيفيات تدبير المسار المهني للموارد البشرية وفق ما تقتضيه استحقاقات الانتقال الرقمي.
– إزالة التعقيدات التقنية التي تحول دون تعميم استفادة المرتفقين من الخدمات الإلكترونية، مع تعزيز مؤشرات المواكبة الافتراضية لمستعملي المنصات والبوابات الرسمية.
– التطوير الفوري لحلول رقمية كاملة بدل النهج التجريبي الذي أثبت فشله، حيث تظل معظم الخدمات في المستوى الإخباري أو التفاعلي المحدود دون الارتقاء نحو الرقمنة الجزئية أو التامة رغم مرور المهل الزمنية الكافية للانتقال إلى الصيغة النهائية للخدمة الرقمية.
– تثمين دور المجتمع المدني في مواكبة التحول الرقمي للإدارة العمومية، من خلال تعزيز ثقافة المرفق العام والتعريف بالخدمات الإلكترونية وتقييم جودة وفعالية المعاملات الرقمية.
– توفير متطلبات العدالة الرقمية، عبر الإنصاف في تغطية التراب الوطني بشبكة الإنترنت السريع وتوفير الأجهزة عالية الكفاءة في الإدارات، ناهيك عن تيسير تملُّك الأدوات والحلول الإلكترونية، وتطوير الكفايات الرقمية لدى المستعملين والعاملين على حد سواء.